سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}
والمراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقاً، والاختيان كالخيانة يقال: خانه واختانه، وذكرنا ذلك عند قوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وإنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم: إنهم يختانون أنفسهم لأن من أقدم على المعصية قفد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب، فكان ذلك منه خيانة مع نفسه، ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره: إنه ظلم نفسه.
وأعلم أن في الآية تهديداً شديداً، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً، فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أثيماً}.
فإن قيل: لم قال: {خَوَّاناً أثيماً} مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد.
قلنا: علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير، فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك، ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات، ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته، وأيضاً طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر، فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم.
وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمة تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر، وأعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى:


{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار، يقال استخفيت من فلان، أي تواريت منه واستترت.
قال تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُستَخِف بِالليلِ} [الرعد: 10] أي مستتر، فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله.
قال ابن عباس: يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله.
قال الواحدي: هذا معنى وليس بتفسير، وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم، فأما أن يقال: الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك، وقوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} يريد بالعلم والقدرة والرؤية، وكفى هذا زاجراً للإنسان عن المعاصي، وقوله: {إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله: {بيت طائفة منهم} [النساء: 81] والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها، فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي.
فإن قيل: كيف سمي التبييت قولاً وهو معنى في النفس؟
قلنا: مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس، وعلى هذا المذهب فلا إشكال، ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر، فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه، فأما قوله: {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله، لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء ثم قال تعالى:


{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}
ثم قال تعالى: {هَأَنْتُمْ هَؤُلاء جادلتم عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} {ها} للتنبيه في {ها أنتم} و{هَؤُلاء} وهما مبتدأ وخبر {جادلتم} جملة مبينة لوقوع {أُوْلاء} خبراً، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم تجود بما لك وتؤثر على نفسك، ويجوز أن يكون {أولاء} اسماً موصولاً بمعنى الذي و{جادلتم} صلة، وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة، وجدل الحبل شدة فتلة، ورجل مجدول كأنه فتل، والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة. هذا قول الزجاج.
وقال غيره: سميت المخاصمة جدالاً لأن كل واحد من الخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه.
وقرأ عبد الله بن مسعود: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه، يعني عن طعمة، وقوله: {فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ} استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع.
ثم قال تعالى: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فقوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ} عطف على الاستفهام السابق، والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية، والمعنى: من الذي يكون محافظاً ومحامياً لهم من عذاب الله؟
وأعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة، وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول:

26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33